التربية بالصحبـة
الكلمات المفتاحية:
التربية بالصحبـةالملخص
الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نِعَمَهُ ويُكافئُ مزيدَه، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الأنامِ وإمام المرسَلين، سيدِنا محمدٍ الصادق الأمين. نسأل الله تعالى أن يعلّمَنا ما ينفعُنا وينفعَنا بما علّمَنا، وأن يُعيننا متعلمين ومعلمين على التأدب بأدب القرآن الكريم.
أما بعد، فالعلم هبة الله، وهبة الله لا تُعطى إلا لمن يُعطي من نفسه وقتاً وجهداً وصبراً، لذا قيل: (إنَّ العِلْمَ لا يُعطيكَ بَعضَهُ حتّى تُعطيَهُ كُلَّكَ).
لا يكفي في التربية أن يوجه المربي أو المعلمُ التوجيهات ويلقي المعارف والمبادئ، إلى تلاميذه والمتربين الذين يقوم على تربيتهم إلقاءً، إذ لا بد أن يروا منه أنشطةً وتطبيقاتٍ عملية تترجم هذه المبادئ والمعارف. والممارسة العملية للمبدأ (القدوة) خير طريق وأبلغ أسلوب للتربية والتعليم، أو يصحبهم في رحلة تعليمية أو تربوية يعلمهم من التجارب العملية، ما نصطلح عليه (التربية بالصُّحبــة).
والتربية بالصحبة تعني أن يصحب الشيخُ مريده أو المعلم تلميذه أو المدربُ المتدربَ معه أو المربِّي مرَبّاهُ، في أنشطة وفعاليات ودروس عملية يوضح خلالها أو بعدها كل ما يجري مستنبطاً العبر، يسأل التلميذ ويناقش متى ما يسمح له المعلمُ أو الشيخ الأستاذ.
ومن فوائد التربية بالصحبة، إضافة إلى تعلم العلوم والخبرات، الإفادة مما يدعى بـ(السَّمْت)، وهو حالة المربي وهيأته في حال تدريسه وقعوده وقيامه واستراحته وحركاته وسكناته، وتصرفاته داخل حلقة الدرس أو خارجها، ينظر إليها التلميذ أو المتربي يرقبها بغية الاقتداء به. لذا على المربِّي ملاحظة كل ذلك!
يروى أن أحد تلاميذ الإمام مالك رحمه الله لما انتهى من دراسة الموطأ عليه، رحل أصحابهُ إلا هو بقي في المدينة - بعد أن جاء من بعيد- فسأله الناسُ: لِمَ لا ترجع إلى بلدك؟ أما أخذت علم مالك؟! قال: نعم أخذتُ علمَ مالك، ولكني لمّا آخذُ سمتَ مالك بعد!!
والدارس لسيرة نبينا (صلى الله عليه وسلم) يجده عاش بين أصحابه رضي الله عنهم قرآناً يمشي بينهم، فعلّمَهم القرآن والعمل به معاً. فكان عليه الصلاة والسلام يجالسهم ويؤاكلهم ويعلمهم آداب الطعام ويذكّرهم الذي نسوه، ويبني معهم المسجد معلماً إياهم التعاون في أجلى صوره، ويؤمهم بالصلاة يعلمهم إياها، ويقاتل معهم بل أمامهم يعلمهم الشجاعة في أعلى معانيها، كل ذلك وهو يتلو عليهم ما نزل عليه من وحي الله. وهكذا علمَّهم القرآن والعمل معاً.
وفي تاريخ المسلمين كان العلماء يجعلون اهتمامهم بخُلُقٍ العالِم قبل علمِهِ، فهذا الإمام البخاري يترك رجلاً يحمل حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب كذبه على دابة له! وهذا الإمام علي بن المديني يردّ حديثَ مَن رآه يركض على بِرذَون له! أي: على دابة. وعدّ ذلك من خوارم المروءة. فكانوا يصاحبون شيخهم يأخذون منه العلم في الحلقة ويمشون معه في الطرقات وربما استضافوه أو أكلوا عنده، وربما رأوه يبيع ويشتري وغير ذلك.
فالصحبة أمضى وسائل التربية مقترنةً بالقدوة العملية للمبادئ التي يروم تدريسها، لأن المبادئ والقيم تبقى كلاماً حتى تُتَرجم على أرض الواقع مواقف وسِيَراً.
والقرآن يعرض لنا مواقف في التربية بالصحبة، كحال نبي الله يوسف عليه السلام مع صاحبي سجنه. وقصة صاحبي الجنتين الواردة في سورة الكهف تحكي لنا كيف يصحح أحدهما للآخر خطأه الذي ارتكبه جراء الغرور. كما سجل القرآن الكريم مواقف كثيرة في مصاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه تربيةً وتوجيهاً وتعليماً، ما أوجد ذلك الجيل المتفرد جيل القرآن الذي عقم التاريخ أن يلد مثله. كموقف الصدّيق رضي الله عنه في الهجرة المباركة، إذ يتلقى جواب الشجاعة الفائقة من النبي القائد (صلى الله عليه وسلم) في أحلك الظروف، إنه لموقف أبلغ من آلاف الكتب وآلاف الخطب عن الشجاعة!
وسجل القرآن جوانب مهمة من حياة النبي المعلم موسى عليه السلام بصحبة قومه من بني إسرائيل يعلمهم ويربيهم، ثم هو يتربّى ويتعلم على يد عبدٍ من عباد الله الصالحين آتاه الله علماً لم يكن يعلمه موسى عليه السلام.
وفي القصص بعامةٍ متعة وفائدة، وفي قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، الواردة في سورة الكهف بخاصة آداب تربوية وآيات وعبر وعظات، ودّ الباحث الوقوف على هذه الآيات بالتحليل، جامعاً مرتباً مستنبطاً، مستعيناً بالله ومسترشداًً بما تيسّر من مصادر، لعل الله تعالى أن ينفعنا والقارئ بها في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم.